فصل: الفصل الحادي عشر: الولاية الصوفية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة **


 الفصل العاشر‏:‏ المعراج الصوفي

كثيرون من رجال التصوف ادعوا أنهم قد عرج بهم إلى السماوات العلى‏.‏ فمنهم عبدالكريم الجيلي وقد ذكرنا بعضًا مما زعم مشاهدته في السماوات وذلك في باب الكشف الصوفي وقد سبق الجيلي من زعم مثل هذا، ويبدو أن أول من افترى ذلك هو أبو يزيد البسطامي الذي جعل لنفسه معراجًا كمعراج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وراح يحدثنا كيف أنه عرج بروحه إلى السماوات سماءً سماءً وأن بغيته كانت في الفناء في الله، أو على حد قوله البقاء مع الله إلى الأبد‏.‏

وهذه هي الفكرة البرهمية الوثنية نفسها في الفناء في الذات الإلهية حسب زعمهم‏.‏

ولكن البسطامي أول من افتري له أو عليه ذلك‏.‏ يدعي أنه عرج به إلى السماء السابعة فالكرسي، فالعرش، وأن الله قال له‏:‏ إلي إلي، وأجلسه على بساط قدسه وقال له‏:‏ ‏(‏يا صفي ادن مني واشرف على مشارف بهائي، وميادين ضيائي واجلس على بساط قدسي‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏، وهذا هو نص المعراج الكاذب المنسوب إلى أبي يزيد البسطامي‏.‏

‏"‏في رؤيا أبي يزيد‏:‏ في القصد إلى الله تعالى وبيان قصته‏:‏

قال أبو القاسم العارف ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ اعلموا معاشر القاصدين إلى الله سبحانه وتعالى أن لأبي يزيد حالات ومقامات لا تحتملها قلوب أهل الغفلة وعامة الناس، وله مع الله أسرار لو اطلع عليها أهل الغرة لبهتوا فيها، وإني نظرت في كتاب فيه مناقب أبي يزيد، فإذا فيه أشياء من حالاته وأوقاته وكلامه، ما كلت الألسن عن نعته وصفته، فكل من أراد أن يعرف كماله ومنزلته فلينظر إلى نومه ورؤياه التي هي أصح في المعنى، وأقرب في التحقيق من يقظة غيره، فهذا ما حكى أن خادم أبي يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ سمعت أبا يزيد البسطامي ـ رضي الله عنه ـ يقول‏:‏ إني رأيت في المنام كأني عرجت إلى السماوات قاصدًا إلى الله، طالبًا مواصلة الله سبحانه وتعالى، على أن أقيم معه إلى الأبد، فامتحنت بامتحان لا تقوم له السماوات والأرض ومن فيهما، لأنه بسط لي بساط العطايا نوعًا بعد نوع، وعرض علي ملك كل سماء، ففي ذلك كنت أغض بصري عنها، لما علمت أنه بها يجربني، فكنت لا ألتفت إليها إجلالًا لحرمة ربي، وكنت أقول في ذلك‏:‏ يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، قال فقلت له‏:‏ رحمك الله صف لي مما عرض عليك من ملك كل سماء قال‏:‏ رأيت في المنام كأني عرجت إلى السماوات، فلما أتيت إلى السماء الدنيا فإذا أنا بطير أخضر، فنشر جناحًا من أجنحته، فحملني عليه وطار بي حتى انتهى بي انتهائي إلى صفوف الملائكة، وهم قيام متحرقة أقدامهم في النجوم يسبحون الله بكرة وعشيًا، فسلمت عليهم، فردوا علي السلام، فوضعني الطير بينهم ثم مضى فلم أزل أسبح الله تعالى بينهم، وأحمد الله تعالى بلسانهم وهم يقولون‏:‏ هذا آدمي لا نوري إذ لجأ إلينا وتكلم معنا، قال‏:‏ فألهمت كلمات، وقلت‏:‏ باسم القادر على أن يغنيني عنكم، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن من نعته وصفته، فعلمت أن ربها يجربني، ففي ذلك كنت أقول‏:‏ مرادي غير ما تعرض علي، فلم ألتفت إليها إجلالًا لحرمته، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الثانية فإذا جاءني فوج فوج من الملائكة ينظرون إلي كما ينظر أهل المدينة إلى أمير يدخلها، ثم جاءني رأس الملائكة اسمه لاويد ‏(‏اسم فارسي جعله اسمًا من أسماء الملائكة‏)‏، وقال‏:‏ يا أبا يزيد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول‏:‏ أحببتني فأحببتك‏.‏ فانتهى بي إلى روضة خضرة فيها نهر، يجري حولها ملائكة طيارة، يطيرون كل يوم إلى الأرض مائة ألف مرة، ينظرون إلى أولياء الله، وجوههم كضياء الشمس، وقد عرفوني معرفة الأرض، أي في الأرض، فجاؤوني وحيوني، وأنزلوني على شط ذلك النهر، وإذا على حافيته أشجار من نور، ولها أغصان كثيرة متدلية في الهواء، وإذا على كل غصن منها وكر طير، أي من الملائكة، وإذا في كل وكر ملك ساجد، ففي كل ذلك أقول‏:‏ يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، كن لي يا عزيزي جارًا من جميع المستجيرين وجليسًا من المجالسين، ثم هاج من سري شيء من عطش نارياق، حتى إن الملائكة مع هذه الأشجار، صارت كالبعوضة في جنب همتي، وكلهم ينظرون إلي متعجبين مدهوشين من عظم ما يرون مني‏.‏

ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه إجلالًا لحرمة ربي، وكنت أقول‏:‏ يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى من صدق الإرادة في القصد إليه، وتجردي عما سواه، فإذا أنا بملك قد مد يده فجذبني، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الثالثة، فإذا جميع ملائكة الله تعالى بصفاتهم ونعوتهم قد جاؤوني يسلمون علي، فإذا ملك منهم له أربعة أوجه‏:‏ وجه يلي السماء، وهو يبكي لا تسكن دموعه أصلًا ، ووجه يلي الأرض ينادي‏:‏ يا عباد الله اعلموا يوم الفراغ ‏(‏لعلها الفزع‏)‏، يوم الأخذ والحساب، ووجه يلي يمينه إلى الملائكة يسبح بلسانه، ووجه يلي يساره يبعث جنوده في أقطار السماوات يسبحون الله تعالى فيها، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال‏:‏ من أنت‏؟‏ إذ فضلت علينا، فقلت‏:‏ عبد قد منّ الله تعالى عليه من فضله، قال‏:‏ تريد أن تنظر إلى عجائب الله‏؟‏ قلت‏:‏ بلى، فنشر جناحًا من أجنحته، فإذا على كل ريشة من ريشه قنديل أظلم ضياء الشمس من ضيئها، ثم قال‏:‏ تعال يا أبا يزيد، واستظل في جناحي، حتى نسبح الله تعالى ونهلله إلى الموت، فقلت له‏:‏ الله قادر على أن يغنيني عنك، ثم هاج من سري نور من ضياء معرفتي أظلم ضوءها‏:‏ أي ضوء القناديل من ضوئي، فصار الملك كالبعوضة في جنب كمالي، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إلى ذلك إجلالًا لحرمته، وكنت أقول في ذلك‏:‏ يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني ثم رأيت‏:‏ كأني عرجت إلى السماء الرابعة، فإذا جميع الملائكة بصفاتهم وهيئاتهم ونعوتهم قد جاؤوني يسلمون علي، وينظرون إلي كما ينظر أهل البلد إلى أمير لهم في وقت الدخول، يرفعون أصواتهم بالتسبيح والتهليل من عظم ما يرون من انقطاعي إليه، وقلة التفاتي إليهم، ثم استقبلني ملك يقال له‏:‏ نيائيل، فمد يده وأقعدني على كرسي له موضوع على شاطئ بحر عجاج، لا ترى أوائله ولا أواخره، فألهمت تسبيحه وانطلقت بلسانه، ولم ألتفت إليه، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه إجلالًا لحرمته، وكنت أقول يا عزيزي، مرادي غير ما تعرض علي‏:‏ فلما علم الله تعالى مني صدق الانفراد به في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني إليه ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بملائكة قيام في السماء رؤوسهم في عنان السماء السادسة يقطر منهم نور تبرق منه السماوات، فسلموا كلهم علي بأنواع اللغات، فرددت عليهم السلام بكل لغة سلموا علي، فتعجبوا من ذلك، ثم قالوا‏:‏ يا أبا يزيد‏:‏ تعال حتى تسبح الله تعالى وتهلله ونعينك على ما تريد، فلم ألتفت إليهم من إجلال ربي، فعند ذلك هاج من سري عيون من الشوق، فصار نور الملائكة فيما التمع مني كسراج يوضع في الشمس، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، وكنت أقول يا عزيزي، مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه فإذا أنا بملك مد يده فرفعني إليه، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء السادسة، فإذا أنا بالملائكة المشتاقين جاؤوني يسلمون علي ويتفخرون بشوقهم إلي، فافتخرت عليهم بشيء من طيران سري، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه، وكنت أقول‏:‏ يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي‏.‏ فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء السابعة، فإذا بمائة ألف صف من الملائكة استقبلني‏.‏ كل صف مثل الثقلين ألف ألف مرة، مع كل ملك لواء من نور، تحت كل لواء ألف ألف ملك، طول كل ملك مسيرة خمسمائة عام، وكل على مقدمتهم ملك اسمه بريائيل، فسلموا علي بلسانهم ولغتهم، فرددت عليهم السلام بلسانهم فتعجبوا من ذلك، فإذا مناد ينادي‏:‏ يا أبا يزيد‏:‏ قف قف؛ فإنك قد وصلت إلى المنتهى، فلم ألتفت إلى قوله ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، وكنت أقول‏:‏ يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في مقصدي إليه صيرني طيرًا، كأن كل ريشة من جناحي أبعد من الشرق إلى الغرب ألف ألف مرة، فلم أزل أطير في الملكوت، وأجول في الجبروت، وأقطع مملكة بعد مملكة، وحجبًا بعد حجب، وميدانًا بعد ميدان، وبحارًا بعد بحار، وأستارًا بعد أستار، حتى إذا أنا بملك المرسى استقبلني، ومعه عمود من نور، فسلم علي ثم قال‏:‏ خذ هذا العمود، فأخذته فإذا السماوات بكل ما فيها قد استظل بظل معرفتي، واستضاء بضياء شوقي، والملائكة كلهم صارت كالبعوضة عند كمال همتي في القصد إليه، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليها إجلالًا لحرمة ربي الله تعالى‏.‏

ثم لم أزل أطير وأجول مملكة بعد مملكة، وحجبًا بعد حجب، وميدانًا بعد ميدان، وبحارًا بعد بحار، وأستارًا بعد أستار، حتى انتهيت إلى الكرسي، فإذا قد استقبلني ملائكة لهم عيون بعدد نجوم السماوات، يبرق من كل عين نور تلمع منه، فتصير تلك الأنوار قناديل، أسمع من جوف كل قنديل تسبيحًا وتهليلًا، ثم لم أزل أطير كذلك حتى انتهيت إلى بحر من نور تلاطم أمواجه يظلم في جنبه ضياء الشمس، فإذا على البحر سفن من نور، يظلم في جنب نورها أنوار تلك الأبحر، فلم أزل أعبر بحارًا بعد بحار حتى انتهيت إلى البحر الأعظم الذي عليه عرش الرحمن، فلم أزل أسبح فيه حتى رأيت ما من العرش إلا الثرى من الملائكة الكروبيين وحملة العرش، وغيرهم ممن خلق الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض، أصغر من حيث طيران سري في القصد إليه، من خردلة بين السماء والأرض، ثم لم يزل يعرض علي من لطائف بره وكمال قدرته وعظم مملكته ما كلت الألسن عن نعته وصفته، ففي كل ذلك كنت أقول‏:‏ يا عزيزي مرادي في غير ما تعرض لي، فلم ألتفت إليه إجلالًا لحرمته فلما علم الله سبحانه وتعالى من صدق الإرادة في القصد إليه فنادى‏:‏ إلي إلي، وقال‏:‏ يا صفي ادن مني، وأشرف على مشرفات بهائي، وميادين ضيائي، واجلس على بساط قدسي حتى ترى لطائف صنعي في آنائي، أنت صفيي وحبيبي، وخيرتي من خلقي، فكنت أذوب عند ذلك كما يذوب الرصاص، ثم سقاني شربة من عين اللطف بكأس الأنس، ثم صيرني إلى حال لم أقدر على وصفه، ثم قربني منه، وقربني حتى صرت أقرب منه من الروح إلى الجسد، ثم استقبلني روح كل نبي يسلمون علي ويعظمون أمري ويكلمونني وأكلمهم، ثم استقبلني روح محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم سلم علي، فقال‏:‏ يا أبا يزيد‏:‏ مرحبًا وأهلًا وسهلًا، فقد فضلك الله على كثير من خلقه تفضيلًا، إذا رجعت إلى الأرض اقرأ لأمتي مني السلام، وانصحهم ما استطعت، وادعهم إلى الله عز وجل، ثم لم أزل مثل ذلك حتى صرت كما كان من حيث لم يكن التكوين، وبقي الحق بلا كون ولا بين ولا أين ولا حيث ولا كيف، جل جلاله وتقدست أسماؤه‏.‏

قال أبو القاسم العارف ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ معاشر إخواني عرضت هذه الرؤيا على أجلاء أهل المعرفة فكلهم يصدقونها ولا ينكرونها، بل يستقبلونها عند مراتب أهل الانفراد في القصد إليه، ثم يحتجون بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏إن العبد لا يزال من الله والله منه ما لم يجزع فإذا جزع وجب عليه العتاب والحساب‏)‏ وروي أيضًا عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏أن من العلم كهيئة المخزون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله ولا ينكره إلا أهل الغرة بالله‏)‏ ا‏.‏هـ منه بلفظه ‏(‏ملحق رقم ‏(‏2‏)‏ لكتاب المعراج منقول من مخطوطة حيدر آباد بعنوان القصد إلى الله‏)‏‏.‏

 معراج إسماعيل بن عبدالله السوداني

ذكرنا في باب الكشف الصوفي ما افتراه عبدالكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل فيما زعمه أنه عرج به إلى السماوات ورأى هنالك الملائكة والأنبياء وكلمهم واستفاد منهم فوائد، وأفادهم كذلك فوائد فيما زعمه، وقد نقلنا في ذلك الباب نقولًا مستفيضة مما كذبه، وقد جاء من نسج على منوال الجيلي تمامًا وكتب كتابًا يكاد يكون نسخة منه وهو إسماعيل بن عبدالله السوداني والذي ألفه سنة 1261هـ أي منذ مائة وسبع وثلاثين سنة تقريبًا وسماه ‏(‏مشارق شمس الأنوار ومقارب حسها في معنى العلوم والأسرار‏)‏‏.‏

وقد سلك إسماعيل بن عبدالله السوداني هذا مسلك الجيلي نفسه حيث زعم أنه عرج به إلى السماء سماء سماء‏.‏ والعجيب أنه جعل هذه السماوات هي الكواكب السبعة التي كانت معروفة في ذلك الوقت ‏(‏القمر، والزهرة، والمشتري، والمريخ، وعطارد، وزحل‏)‏‏.‏ والتي كان يظن قديمًا أنها هي السماوات السبع فجعل لكل سماء من هذه ‏(‏روحانية‏)‏ كما يعتقده الصابئة عبدة النجوم، وشوه معراج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنقل منه أسماء الأنبياء والرسل الذين التقى بهم الرسول في معراجه، فزعم إسماعيل هذا أنه التقى بهم أيضًا وأفادوه وباركوه واحتفلوا بمجيئه إليهم، وأنه شاهد بعد ذلك العرش والكرسي وسدرة المنتهى، والملائكة الذين لم يسجدوا لآدم تمامًا كما زعم الجيلي من قبله مكذبًا بذلك القرآن حيث يقول سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ويبدو أنه لم يقرأ هذه الآية قط واكتفى بقراءة كتاب الجيلي ونقل عنه مشاهداته وزعمها لنفسه وجعلها كشفًا خاصًا به هو‏.‏‏.‏

وهذا هو شأن مشايخ التصوف ينقل بعضهم عن بعض نفس الدعاوي التي يدعيها من قبله فإذا قال أحدهم أنا خاتم الأولياء قال من بعده بل أنا خاتم الأولياء، وإذا قال أحدهم رفعني الله وأجلسني عنده وأعطاني وقربني جاء من يدعي هذه الدعاوي ويزيد على ذلك وهكذا‏.‏ وهأنذا أنقل فقرات من هذه الأكاذيب المفتراة التي افتراها إسماعيل بن عبدالله السوداني‏:‏ قال‏:‏

‏"‏المغرب السابع في عين العروج إلى السماء السادسة

اعلم أيها الابن البار المبرور والمهدي إلى طريق الملك الغفور أن العبد إذا طرح جميع الأكوان العارضة له في السماء الخامسة في حالة عروجه إلى حضرة الرحمن فإن الرب الكريم يصلح له السريرة ويحد له عين البصيرة فيعرج منها إلى السماء السادسة فيجد البواب فيسلم عليه فيرد عليه السلام ويرحب به، ويفتح له الباب‏.‏

فافهم يا بني فإنه يدخل فينظر ما فيها من الغرائب ويتعجب من تلك العجائب فإن هذه السماء فيها من الكواكب المشتري ولونها في غاية السواد قد يرى وهو جوهر شفاف من بديع الصنائع على الاستواء من غير اختلاف ودورها أوسع يزيد على دور سماء المريخ بألفين عام ومائتين سنة وثلاثة وثلاثين سنين ‏(‏كذا والصواب‏:‏ بألفي عام، ومئتي سنة وثلاث سنين‏!‏‏)‏ وأربعة أشهر، وفيها نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ‏(‏هكذا‏)‏‏.‏

 نفائس حقية من علوم ذوقية

فنقول بحسب كشفنا، فإن العبد الراقي إلى تلك المراقي إذا وصل إلى هذه السماء يرى نفسه مغيبًا في أنوار القدس موشحة بأنوار الهيبة والأنس حوله جملًا من ملائكة الرحمن ناطقًا بغميض الأسرار والعلوم معهم في حالة عروجه إلى حضرة الملك الديان‏.‏ فيرى ملائكة هذه السماء متنوعة من عدة أصناف، فيهم ملائكة الرحمة الألطاف، يدرون ملائكة هذه السماء في هذه الأرض لرفع الوضيع وزيادة الرفيع، منهم من وكله الله تعالى بإيصال الرزق إلى المرزوق، ووكل غيرهم بما اقتضته الحكمة بين الخالق والمخلوق‏.‏‏.‏

وقد اجتمعت بالملك الحاكم عليهم وهو روحانية المشتري ‏(‏كوكب معروف‏)‏، رأيته جالسًا على منبر من نور الحكمة ملتحفًا بثوب أصفر من أنوار الهمة، وهم مطيعون له في سره وجهره وممثلون له في جميع نهيه وأمره لا يفعل منهم أحد شيئًا إلا بإذنه ولا يتقدم إلا بأمره لتنفيذ ما وكل به من شأنه، فسألته عن عدة علوم فأجابني برمز مكتوم ففهمته منه بوساطة مظهر اسم الله القيوم، بفهم لا من حيث مطلق المفهوم فوثبت قائمًا وسرت منه بفضل الله تعالى عالمًا، فاجتمعت من بعده بنبي الله موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فوجدته فانيًا في الشهود والمكالمات غالبًا في أنوار المشاهدات جالسًا على كرسي من أنوار الوقار ولونه أصفر مخلوط عليه خطوط مرموزة جامعة لما حواه من الفخار من حضرة الأسرار متأدبًا مع استهلاكه مع شهود مولاه، مناجيًا له ومستغرقًا في فناه، تجلي الآنية فيحضره إظهار مظاهر الحق في حقيقة سره، إنني أنا الله، فقد عرفته بعدما عرفني فسلمت عليه ورد علي السلام وقربني وانتصب لي قائمًا وأهل بي حيث جئته حافظًا ملازمة أدبي، فسألته سؤال من دخل حضرة الأدب وعرف سر البسط والغضب‏.‏

فقلت له‏:‏ يا سيدي بحق من نبأك وزكاك وأورثك هذا المقام وتولاك بأن تجود علي بإجابة مقالي وإفادتي في سؤالي، فإن رسولنا الصادق الكريم بلغنا ما قصه له ربه في الكتاب الحكيم بأنك طلبت رؤية مولاك حيث قلت له‏:‏ أرني أنظر إليك‏.‏ فأتاك منه الخطاب حيث قال‏:‏ لن تراني، فما معنى طلبك له ومجيء هذا الخطاب إليك فاستفدنا عدم حصول الرؤية لك في حالة مجيء الخطاب فشتان ما بين حالتك هذه وحالة أهل الحجاب، فكيف هذا السر، وباطن هذا الأمر‏؟‏

فقال لي‏:‏ يا عبدالله إن السر غريب والأمر عجيب، فافهم أرشدك مولاك وأورثك أسرار علومه وتولاك، فإن ربي حين أمرني بعبادته بمطلق العبودية وعرفني سر ظهور أسراره مظاهره في عموم الآنية حين أبصرت نار سر دلالتي ورجوت إتياني لأهلي بشعلة منا كي يصدقوني بها في مقالتي أو أجد عليها هدى من ضلالتي، فنوديت بعد إتياني بها من جانب طور قلبي بما اقتضت الحكمة من ربي، يا موسى إني أنا ربك الصادر أمري لك، فاخلع نعليك الكائنتين في عضويك بأن لا تشرك بعبادتي أحدًا ولا يدخلك ريب فيما آمرك به أبدًا إنك بالواد الذي هو فضاء سر الظهور الظاهر من ربك إلى قلبك من جانب الطور المقدس عن حلول الأغيار فيه، المطهر لك حيث اقتضت الحكمة بأنك في هذا الوادي المسمى بطوى توافيه، وأنا اخترتك حيث أمرتك فاستمع لما يوحى من الإيحاء، فلما حققت هذا المقال من حضرة القرب على لسان الحال استعددت إلى تنزله في داخل قلبي وفنيت نفسي في الاستماع لما يوحى إلي من حضرة ربي، جاءني منه الأمر بالاستفراغ لعبادته حيث قال لي‏:‏ ‏{‏إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ ‏.‏ فقبلت ذلك وعبدته كما أمرني، فلما صدق الإخلاص مني وحسن في الله ظني أردت بقاء نفسي في مقام لقاه وأيقنت بأن لا إله معبود بحق سواه‏.‏ فقلت‏:‏ ربي أرني أنظر إليك‏.‏ فما طلبت سوى تجلي الذات للذات‏.‏ وذلك من أسرار الكبريائية من التجليات، فلما علم الله استحالة بقاء القديم في الحادث وما ثم غيري في هذا المقام محادث‏.‏ قال لي‏:‏ لن تراني في الحال بحيث أبقى فيك، لأني قديم وأنت حادث ولكن أنظر إلى الجبل المستقر حولك إذ تنكشف لك حقيقة ذلك، فإن استقر مكانه بعد ظهور سلطاني له فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقا، أي فلما ظهر سلطان القديم للجبل ساخ في الأرض حيث نزل وقد حصل لموسى ما حصل من الصعق والوجل‏.‏ وفي هذا المقام سر لطيف وتعلمت من موسى عليه السلام مائة ألف علم من العلوم التي تجول في الأفكار تعذر النطق بها‏.‏

ثم تعلمت منه في هذا المشهد علومًا لم يسعني الوقت أن أفشيها فيه، وما أظن أحدًا من الأولياء المتقدمين تكلم على حقيقة هذا المشهد على ما هو عليه أبدًا إلى وقتنا هذا، وإن تكلم البعض عليه فذلك في شيء منه فلا يستطيع أحد منهم أن يستوفيه لشدة ما رأيته من عظمة حقيقته ورقة دقيقته، وقد اجتمعت برجال من الأولياء الأكابر حين تقييدي لهذا المحل فوجدته له معرفة تامة في بعض المظاهر من هذا المشهد وقدمه موسوي متحقق بإحدى وخمسين اسمًا من أسماء الله الحسنى له تعبير لطيف وبحث ظريف فسألته عن مقامه والذي حازه من علوم هذا المقام، فأخبرني بدقائق من علومه فحققت أن له حظًا وافرًا وأخبرني أن لما وصل من هذا المقام إلى هذا المحل وجدنا سيدنا موسى عليه السلام‏.‏

وسأله فبحث فيه فاستفاد بوساطته خمسة آلاف علمًا وفي كل علم أسرار لا تحصى فلما سألني عن علومي في هذا المشهد وبحثت له في ذروته من دقائق العلوم والأسرار والمظاهر والأنوار غاب عن نفسه غيبة عظيمة حتى خفت عليه من أن يذوب، فلما صحا تعجبت من ثباتي مع شدة التمكين فحمدت على ذلك الملك المعين، فلما حققت زيادتي عليه وتمكني في المشاهد بالذي ظهر مني إليه طلبني اسمًا من المخفيات لأجل التبرك فأعطيته ذلك الاسم بأنواره وعلوم حضراته وأسراره فانتفع به‏"‏ ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص128،131‏)‏ انتهى منه بلفظه‏.‏

ويستطرد إسماعيل بن عبدالله السوداني مبينًا مشاهداته المزعومة في السماء السابعة فيقول‏:‏

‏"‏فنقول بحسب كشفنا، قد اجتمعت فيها ‏(‏أي في السماء السابعة‏)‏ بجملة من الملائكة فعرفتهم وعرفوني وسألتهم عن علوم لا تحصى، ورأيت فيها كوكبًا له توقد من شدة عظمته ولكنه خفي عن أعين الناظرين، لأن معرفته لم تحصل لأحد سوى الكاملين من العارفين أهل الفتح ولم يظفر به إلا أرباب المعارف الراقين ذروة السطح ومن ثم فعلت كيفية حلول زحل في فلكه، وعلم كيفية سيره فيه، وعلم السر الذي وضعه الله فيه وغير ذلك‏.‏

واجتمعت في هذه السماء بنبي الله سيدنا إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فوجدته جالسًا على منبر من نور أحمر متكئ على نمارق من نور أخضر لائحة على وجهه أنوار المعارف والكمال متوجهًا بتاج أسرار النبوة والأجلال بيده قضيب من سر علوم الكنوز معتقلًا سيف فتق طلاسم الرموز مسندًا ظهره إلى البيت المعمور مشاهدًا ما هو له من حضرة الغفور، فلما وصلت إليه وسلمت عليه، رد علي السلام وأكرمني بالقيام إكرامًا لنبينا أشرف الأنام فعرفني ورحب بي وبشرني ببلوغ مطلبي‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى منه بلفظه ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص135‏)‏‏.‏

ويستطرد إسماعيل هذا في بيان مشاهداته في السماء السابعة والدعوة إلى طريقته الخاصة قائلًا‏:‏

‏"‏وفي باطن هذا سر لا أطيق ذكره في هذا الكتاب وفي هذا المشهد سر لطيف ومقام طريف ما تكلم عليه أحد الأولياء المتقدمين إلى وقتنا هذا، وإن أردت التكلم على بعض منه في حين تقييدي لهذا المحل اجتمعت بسيدنا إبراهيم عليه السلام فأشار إلي بتركه وبشرني بمقام كبير أبلغه وأنال به في الآخرة مما لا يعطي لغير المقربين من الكاملين المحبوبين فأنعم به أنا ومن معي من أولادي وإخواني وأصحابي المجدين في طريقتي‏"‏ ا‏.‏هـ ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص135‏)‏‏.‏

ويستطرد إسماعيل هذا في بيان مشاهداته المزعومة فيزعم رؤية سدرة المنتهى والعرش والكرسي فيقول‏:‏

‏"‏فنقول بحسب كشفنا إن العبد الراقي إلى مقام هذه السدرة يراها عظيمة جدًا وبها ‏(‏نويرًا خارقًا‏)‏ ممتدًا فيعلم السر الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فيها وعلم السبب الذي ينتهي إليها الصاعد والهابط‏.‏ ويعلم مقام الملائكة الكروبيين منها ومنازلهم وكيفية حالتهم، فهم على أنواع مضعفة، وحالات مختلفة، فمنهم مدهوش في هويته، ومنهم مستغرق في آنيته، ومنهم واقع على جنبه، ومنهم واقع على وجهه، ومنهم حاث على ركبتيه قد غمروا في أنوار المشاهدات وانفنوا في انطباق تكرر التجليات فلا يستطيع أحد منهم حركة لعدم شعورهم وشدة استغراقهم فيما هم فيه، فهم عالون في الملائكة فما أمروا بالسجود لآدم عليه السلام ولا سجدوا له قط، وقد اجتمعت بالملك الحاكم عليهم وهو مقدمهم الذي يأتي منه الأمر، والنهي إليهم وينظره من المتقدمين على غيرهم أعمدة النور لأجل تأديب الدون منهم وغيرهم من الآدميين، فسألته عن السر الذي سرى في ذوات هؤلاء الملائكة حتى لازمتهم تلك الحالة، فأفادني بأحسن مقال، ثم سألته عن دقائق العلوم ومن خفي السر المكتوم فأفادني بحول الله وقوته فيها وفي بعض أمور مما هي من المستور، وقد حزت في هذا المشهد علومًا لم أطق إبداءها ولم أستطع إفشاءها‏.‏

ثم نرجع إلى ما كنا في سبيله فنقول‏:‏ إن من هنا يرقى العبد إلى فلك الكرسي إلى كرسي جبريل عليه السلام، فمن ذلك يعلم حقيقة كل ستر كان وموجبه وسر حقيقته، فيرى عن ذلك أنهارًا جارية فيغترف من أكبرها وينال الشرب من أشهرها، فيحصل له بذلك التحقق بما يحويه من الأسرار التي لا تحصي والعلوم التي لا تستقصي ثم يرقى إلى الفلك المحيط الذي هو العرش‏.‏

وهو أول الأفلاك وأعظم السماك، فمن ثم يتضح له مظهر الاسم الرحمن، فهنالك يعلم ما شاء الله تعالى من مناسبة مصاحبة بعض الملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، فحينئذ ينظر حملة العرش، ويتعلم من علم السر الذي يحملونه به وكيفية صورهم الباقين بها، وقبل هذا يعرف مظاهر كثيرة، منها ما يتعلق بالأجسام المتغذية، ومنها ما يتعلق بالأرواح، وفي هذا المقام أشياء لا يصح إبداؤها ولا سبيل للتكلم إلى مجاوزة ما فوق ذلك مخافة أن يدعيها أهل الدعاوي المحجوبون الذين لم يصلوا إليها، فالسكوت عنها أولى والتلذذ بمطالعة مشاهدة تجليات صانعها أحلى، والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل‏"‏ انتهى منه بلفظه ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص140،141‏)‏‏.‏

وبعد كل هذه السخافات والخرافات التي يسرقها إسماعيل بن عبدالله السوداني من عبدالكريم الجيلي وينقلها أحيانًا بالنص ولا سيما في ألوان كل سماء، وأن كلا منها كوكب من الكواكب المشهورة يعود فيذكر مشاهداته المزعومة أيضًا في الأرضين السبع‏.‏‏.‏ إلى أسفل سافلين تمامًا كما فعل عبدالكريم الجيلي، فيزعم إسماعيل هذا أيضًا أنه طاف بالطبقة الأولى من الأرض وهي أرض في زعمه ناصعة البياض لم يعص فيها الله قط، وأن الفجر يطلع بعد الغروب بمقدار يسير جدًا وذلك على حد زعمه في زمن الشتاء‏.‏

قلت من يعلم جغرافية الأرض يعلم أن هذا وصف للقطب الشمالي وبياض الأرض هو الثلج الذي يغطيها، وكون الليل يكون نحو ساعة واحدة نعم ولكن هذا لا يحصل في الشتاء كما زعم إسماعيل هذا ولكنه يحدث في الصيف حيث يصبح الليل ساعة والعكس تمامًا في الصيف حتى لا يكون بقاء الشمس إلا نحو ساعة أو أقل أحيانًا في بعض مناطق القطب‏.‏‏.‏، ولكن هذه المعارف الجغرافية العادية التقطها هؤلاء الشيوخ وجعلوها كشفًا صوفيًا لا يتأتى إلا بالمجاهدة المزعومة وبانكشاف حجب القلب، وليتهم إذ نقلوها أيضًا نقلوها صحيحة بل لم يستطيعوا أن يميزوا بين ما عليه هذه المناطق في الصيف والشتاء‏.‏

ثم يذكر إسماعيل هذا أن الأرض الثانية مسكونة بالجن وأن ليلهم نهارنا ونهارنا ليل عندهم‏.‏ وهذا خلط بين معارف الجغرافية وبين أغاليط الصوفية‏.‏

وأما الطبقة الثالثة من الأرض فيزعم أنها مسكونة بالجن كذلك ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص143‏)‏، وينتقل هذا الشيخ الصوفي هكذا بين الأرضين المزعومة أرضًا أرضًا يطلعنا على مشاهدته وتخريفاته فيقول مثلًا ففي الأرض السادسة‏:‏

‏"‏فنقول بحسب كشفنا‏:‏ إن هذه الطبقة مسكونة بالمردة من الشياطين وهم أقوى حالًا من العفاريت وكل منهم مسلط على إنسان للعداوة السابقة، فكثير يدخلون في حوزهم فلا ترى منهم متحركًا ولا ساكنًا إلا قد قيده حكمهم بما اقتضته الحكمة الإلهية بمثابة تقلباتهم ودخولهم على الخلق بالأنواع المختلفة بحسب أجناسهم، فمنهم من يظهر للآدميين في الخواطر، ومنهم من يظهر لهم في عالم المثال لسوقهم إلى غاية الخذلان والضلال إلى غير ذلك مما لا يدركه على الحقيقة إلا الأولياء أهل الكمال وقد يتكلمون بحسب ما يؤذن لهم فيه من هذه الأبواب والمقامات من العوالم العلويات والسفليات والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل‏"‏ انتهى ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص148‏)‏‏.‏

ويستطرد أيضًا فيذكر مشاهداته في الأرض السابعة فيقول‏:‏

‏"‏نقول بحسب كشفنا‏:‏ إن هذه الطبقة مسكونة بالحيات والعقارب وهي التي وردت بها الأخبار من أنها كأمثال الجبال وأعناق البخت وغير ذلك، فإن العبد العارف حين يدخل هذه الطبقة يدخله هم شديد مخافة أن يرى مقامًا في النار لبعض أصحابه ومريديه، فحينئذ يتطلع على جميع المقامات فإذا وجد مقامًا في النار لبعض مريديه أو بعض أصحابه سعى في هتكه بالتضرع إلى الله تعالى إلى أن يبدله الله سبحانه وتعالى ‏(‏له‏)‏ مقامًا في الجنة‏.‏

كما أنه إذا وقف على الفلك الكوكب المسكون بطائفة من الذين هم معدودون في نعم الجنة يتطلع على مقامات الجنات، فإذا رأى مقامًا من مقامات بعض أصحابه سعى في رفعته وزيادته، وهذا كله يكون كرامة في الحق الولي العارف وشرفًا للوساطة الكبرى والوصلة الفخري عين حقائق السعود وجنة نعيم التجليات والشهود سيدنا ومولانا محمد الأسعد عليه أفضل الصلاة والسلام من البر الأوحد لأن بشرفه على أمثاله شرف أمته على سائر الأمم فإن الولي من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوف على جميع العوالم العلويات والسفليات ويطلع على مكنون غيب السبع السماوات والسبع طبقات ‏(‏هكذا والصواب‏:‏ سبع السماوات، وسبع الطبقات‏)‏، ويعلم منازل أهل الجنة ومنازل أهل النار، وعلم ما كان وما يكون وما هو كائن وغير ذلك ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فإنه يعلمهم قدر ما تقتضيه حكمته وتعمهم به رحمته بالوهب والتفضيل، والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل‏"‏ انتهى منه بلفظه ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص153‏)‏‏.‏

ولا يكتفي أيضًا بكل هذا الإفك والتخريف بل يذهب ليطلعنا أيضًا على كشفه المزعوم في بحار العلوم، فيقول‏:‏

‏"‏وقد اجتمعت مرة في بقعة من ساحل البحر المحيط الذي هو من وراء جبل قاف برجل من النقباء أصفر اللون مربوع القامة كثيف اللحية صبيح الوجه، فوجدته فانيًا في التجليات، غائبًا في أنوار المشاهدات وقدمه على قدم سيدنا يعقوب عليه السلام، وورده القائم به آخر سورة الحشر، ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 22‏]‏ ‏.‏‏.‏ إلخ السورة‏.‏ وهو مسقي بثلاثة عشر اسمًا من أسماء الله تعالى الحسنى، ولكنه متحير في مقامه، ويطلب التخلص منه فما وجد له سبيلًا، فسلمت عليه، فإذا هو في غاية الاستغراق شاخصًا ببصره إلى الطباق، فإنه يشير إلى البحر الذي هو بساحله ففهمت منه أنه يشتكي إلي بصعوبة تخليصه من هذا المقام، كأنه يقول إن خلاصه منه أصعب حالًا من شراب ماء هذا البحر، لأنه هو البحر الأخضر، ماؤه مر لا يستطيع أحد الشراب منه، لأن الذي يشرب منه يهلك حالًا من شدة مرارته، فوجدت بيد الرجل رمانة مغلوقة وأكلت معه منها، فلما عرفته بوسمه وخاطبته باسمه قلت له ما المقصود‏؟‏

قال‏:‏ مشاهدة الملك المعبود‏.‏

فلما عرفني فهمت لغزه وأدركت رمزه، وتحقق أنني مفيده فيما يريده أخذ يطلبني من غير انفكاك عني وصحبني إلى محل بعيد، فأخذت له في المقال وأطلقت له لسان الحال إلى أن شاهدنا الكنوز المستورة تحت قباب الرموز من البحر الأسود الذي انتهى إليه المورد، فإن هذا البحر رسمه معدوم وظاهره مكتوم فلا أستطيع فيه التعبير ولم أتعرض إلى البيان فيه والتفسير فمن ثم أخذ مني بعض أذكار مصاحبة أنواره وانصرف بسبيله إلى مشاهدة دليله، وفي حين تقييدي لهذا المحل اجتمعت معه فوجدته في حال عظيم ومقام فخيم فأخبرني أنه حصلت له مني مفاتحات عظيمة وإمدادات كريمة حين أكلت معه في تلك الرمانة، فحكى لي شيئًا من حاله، ووجدته سقى بخمسة وثلاثين اسمًا من أسمائه تعالى، وصار في زيادة بابتهاج طريقه الأعلى‏.‏ وقد اجتمعت في ساحل البحر الأحمر برجال من أرباب الأحوال لم يزالوا في دلالة المخلوقين إلى طريق معرفة رب العالمين فإذا أمعن ناظرهم فكرة يحقق أنهم ليس لهم اشتغال أبدًا بغير هذا، ثم أمور لا سبيل إلى ذكرها بقصور الوقت وضيقه عنها، فانتهج أيها العاقل وكابد في خوض المقامات والمنازل فإن الله تعالى حكيم كريم يورثك من علم سره العظيم أنه واهب جليل والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل‏"‏ انتهى ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص159،160‏)‏‏.‏

وقد يسأل السائل ما الداعي لكل هذا الكذب والانحراف، وما الذي يدفع هؤلاء إلى كل هذا التخريف والتكلف، هل هم عقلاء أو مجانين وإن كانوا عقلاء فماذا يريدون‏.‏ وقطعًا لهذه التساؤلات يجيب المؤلف نفسه عن مراده وذلك في آخر كتابه فيقول‏:‏

‏"‏المغرب التاسع

في عين خاتمة الكتاب

 كيفية صفة خلوة للمؤلف وغير ذلك من الأدعية المرجية

اعلم أيها الابن المجتهد والمحتسب المقتصد، أن كل خير لا ترقى ذروته إلا بجهد النفس وأتعابها فيه، وقد تكلمنا لك فيما تقدم من المجاهدات والمكابدات، وأن الطرق الموصلة إلى الله تعالى لا تحصى، وكل صاحب طريقة أدرى بما فيه الصلاح لمن يسلكها، ولما أنعم الله علي بنيل هذا المقام وجعلني من خواصه الكرام أذن لي في التكلم والظهور وإبداء طريقة أستقبل بها وأسلك بها المريدين لأجل أن يصلوا بها، إلى حضرة الغفور، فحصل الأمر كما أمر واشتهر ذلك واستمر، فلما أذنت من الحضرتين بإظهار كل ما نراه يصلح لأهل طريقتي بلامين وأفاض علي الوهاب بوارد تأليف هذا الكتاب أردت أن أختمه بصفة خلوتي التي تصلح لأهل طريقتي كما فعل قبلي أهل الطرق بنظرهم الذي يصلح لأهل طرائقهم، وجعلت كيفية هذه الخلوة رسالة مستقرة وأفردتها في هذا المغرب لأجل أن يسهل نقلها ونظرها لمن له رغبة فيها، فمن أراد نقل جميع الكتاب فهي من جملته، ومن أراد الاستقلال بها فليفردها منه من أول البسملة إلى حد الخاتمة الآتية، وهي هذه‏"‏ انتهى منه بلفظه ‏(‏كتاب مشارق شموس الأنوار ص161‏)‏‏.‏

الخلاصة أن الرجل يريد أن يبني له طريقة خاصة لتسليك المريدين، وجمع الأغبياء والمغفلين ومن ثم جمع النذور والقرابين، وبالتالي جعل نفسه في مكان الملوك والسلاطين‏!‏‏!‏‏!‏ هذه هي النهاية التي يسعى إليها ملوك التصوف، وأئمة الضلالة ومن أجل هذا كذبوا على الله هذا الكذب المبين ولا يسع المسلم إلا أن يحمد الله على العافية مما ابتلي به هؤلاء المارقون الكاذبون والحمد لله رب العالمين‏.‏

 الفصل الحادي عشر‏:‏ الولاية الصوفية

 الولاية الرحمانية

أعلن القرآن أن كل مؤمن صادق في الإيمان ولي لله سبحانه وتعالى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏257‏]‏‏.‏

نصت الآية هنا على أن الله ولي كل مؤمن، وأنه بفضل هذه الولاية يخرج الله المؤمنين من الظلمات إلى النور، وقال تعالى أيضًا‏:‏ ‏{‏إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏196‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏18-19‏]‏‏.‏

يخبر سبحانه وتعالى أنه ولي لكل من اتقاه وخافه‏.‏‏.‏ وجاء في دعاء موسى ـ عليه السلام ـ لربه ‏{‏أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏155‏]‏‏.‏

وقال تعالى أيضًا‏:‏ ‏{‏وهذا صراط ربك مستقيمًا قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏126-127‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏62-63‏]‏‏.‏

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا التي تبين ولايته سبحانه وتعالى لكل مؤمن صالح متق لله سبحانه وتعالى‏.‏‏.‏

والولاية هي المحبة والنصرة‏.‏‏.‏ فالله سبحانه وتعالى إذا والى عبدًا فإنه يحبه وينصره ويعزه ويكرمه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وكذلك العبد إذا قيل إنه يوالي الله فمعنى ذلك أنه يحب الله وينصره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا أشد حبًا لله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فولي الله من ينصره ويحبه، ومن يحب الله ينصره‏.‏‏.‏، فكل من أحب الله ونصره، وسار في مرضاته، وحفظ حدوده، وأقام شريعته ودينه، فهو ولي الله سبحانه وتعالى‏.‏

وقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طريق الولاية فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏[‏قال الله تعالى من عادى لي وليًا فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه‏]‏ ‏(‏رواه البخاري‏)‏‏.‏

هنا بين الرسول فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى أن طريق الولاية للعبد هو أن يقوم بأداء الفرائض أولًا التي هي أحب الطاعات إليه سبحانه وتعالى، ثم يتدرج في أداء النوافل حتى يحبه الله، فإذا أحبه الله سبحانه وتعالى كان وليًا حقًا له جل وعلا، وقد جاء في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله إذا أحب عبدًا قال يا جبريل إني أحب فلانًا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء فيقول إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض‏)‏ ‏(‏رواه مسلم‏)‏‏.‏

ولا شك أن ولاية الله سبحانه وتعالى هذه مبذولة لكل من سعى إليها وسار في طريقها ووفقه الله سبحانه وتعالى إلى بلوغها كما قال جل وعلا‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال أيضًا جل وعلا‏:‏

{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏

ولا شك أنه على الرغم من أن كل مؤمن هو ولي الله جل وعلا فإن ولاية الله للعبد ومحبته له تتفاوت بحسب الإيمان والتقوى والعمل الصالح فكلما ازداد إيمان العبد وترقى في درجات الكمال والصلاح وتحلى بالتقوى كان أعظم ولاية، وأقرب من ربه سبحانه وتعالى، هذا مفهوم الولاية في الإسلام على وجه الإجمال‏.‏

 الولاية الصوفية الشيطانية

ولكن في التصوف الشيطاني فإن الولاية لها معنى آخر تمامًا في الشكل المضمون والموضوع، فولي الله عند الصوفية الزنادقة من اختاره الله وجذبه إليه، وليس من شرط ذلك أن يكون عند هذا المختار والمجذوب أية مواصفات للصلاح والتقوى إذ الولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون سبب، وبغير حكمة، ويجعلون الولاية الكسبية هي ولاية العوام والمتنسكين والولاية الحقيقية عندهم هي الولاية الوهبية، يستدلون لذلك بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏‏.‏ فيقولون‏:‏

الولاية اختصاص وهذا تلبيس منهم لأن اختصاص الله من يشاء برحمته لا يكون إلا لحكمة وأسباب اقتضت ذلك كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فجعل سبحانه وتعالى تقواه واتخاذ الوسيلة منه هي الطريق الموصل لرحمته فيستحيل أن تكون رحمة الله التي يختص بها من يشاء كائنة دون حكمة لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أن يجعل رسالته وأين يضع هدايته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏53‏]‏‏.‏

فأخبر سبحانه ردًا على الكفار الذين احتقروا المؤمنين لفقرهم وقالوا‏:‏ كيف يرزقهم الله التقوى ونحن أكرم على الله منهم لأنه رزقنا الأموال والأولاد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ ‏]‏ سبحانه وتعالى إنه أعلم من يوفق لهدايته وهم الذين يحكمون بواجب شكره سبحانه وتعالى ولذلك عبد الرسول ربه حتى أتاه اليقين وهو الموت، وقام من الليل حتى تفطرت قدماه وقيل له‏:‏ يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال‏:‏ ‏[‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏]‏ ‏[‏متفق عليه‏]‏‏.‏‏.‏

فالعباد الذين يعلم الله منهم الطاعة والإخلاص والقيام بشكر نعمته هم الذين يوفقهم الله لطاعته ومحبته وولايته‏.‏

ولما اعتقد الصوفية الزنادقة أن الولاية قضية وهبية بلا حكمة ولا معقولية جعلوا المجاذيب والمجانين والفسقة والظلمة والملاحدة المشركين من أهل وحدة الوجود، أولياء لله بمجرد أن ظهر على أيديهم بعض خوارق العادات التي ظهر مثلها على الدجال وابن صياد، وأصناف من المشركين وأهل الإلحاد‏.‏‏.‏ فجعلوا الكرامة الشيطانية الإبليسية كالإخبار ببعض المغيبات واحتراف بعض الحيل والشعوذات وإتقانها كزعم الدخول في النيران وضرب الجسم بالسكاكين والسهام واللعب بالعقارب والحيات، وأمثال ذلك من المخاريق والترهات جعلوا أولياء الله هم هؤلاء الذين يدجلون على الناس بمثل هذه الخرافات مع ما هم عليه من مخالفة الإسلام، في الظاهر والباطن فظاهرهم مخالف للشريعة حيث عبدوا الله بالبدع والمظاهر الكاذبة والرياء والسمعة كملبس الخرق الملونة والمرقعات وإظهار الفقر والزهد، وذكر الله بالصياح والهوس والجنون وإقامة مشاعر الشرك عند القبور والمزارات والاستعانة بالأموات، وعبادة المشايخ والذوات، جعلوا من هذه أحوالهم في ظاهرهم أولياء لله، ومن أحوالهم في بواطنهم أشر من ذلك وأمر‏.‏ فهم من أهل وحدة الوجود الكافرين والزنادقة الملحدين الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق، ورب وعبد، ومن يجعلون النبي محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو علة الأكوان، والمستوي على عرش الرحمن، ومبدع الأرض والسماوات إلى آخر هذا الكفر والهذيان مما يأباه من عنده أدنى إسلام وإيمان‏.‏‏.‏‏.‏ هذه هي الولاية الصوفية في زعمهم جعلوها لهؤلاء كما جعلوها أيضًا للمجانين والصبيان ولأهل التخاريف والهذيان حتى عدوا في أوليائهم من يأتي الحمارة في وضح النهار، وأمام الأسماع والأبصار وسلكوا في سلك الولاية الشيطانية هذه من يشرب الخمر جهارًا نهارًا، ويزني ويلوط عيانًا بيانًا، ويزعمون في كل ذلك أن هذا مظاهر غير مراد، وأنه نوع من التخييل للعباد، وأن الولي الصادق لا تضره معصية أبدًا، أو أن الأعيان ينقلب له فالخمر التي يشاهدها الناس خمرًا ينقلب في بطن الولي لبنًا خالصًا، والزانية الفاجرة التي يرى الناس الولي بصحبتها تكون زوجته، ولم يكتفوا بهذا أيضًا في تعريف الولاية عندهم بل قالوا في الفكر الصوفي إن الولي يتصرف في الأكوان ويقول للشيء كن فيكون، وكل ولي عندهم قد وكله الله بتصريف جانب من جوانب الخلق فأربعة أولياء يمسكون العالم من جوانبه الأربعة، ويسمون الأقطاب، وسبعة أولياء آخرون كل منهم في قارة من قارات الأرض السبع ويسمون البدلاء‏.‏ وعدد آخر من الأولياء في كل إقليم في مصر ثلاثون أو أربعون وفي الشام كذلك، والعراق وهكذا، وكل واحد من هؤلاء قد أوكل إليه التصريف في شيء ما، حتى عدو منهم من صرفه الله في رعاية الكلاب، ومنهم من له التصريف في رعاية الحيات، وفوق هؤلاء الأولياء جميعًا ولي واحد مراد يسمى القطب الأكبر أو الغوث وهو الذي يدبر شأن الملك كله سمواته وأرضه والأولياء جميعًا في بقاع الأرض تحت أمره‏.‏

فالأرض والسماوات تدار حسب الولاية الصوفية وأما الملائكة جميعًا فإنهم في خدمة هؤلاء الأولياء ينفذون أوامرهم ويخضعون لمشيئتهم‏.‏‏.‏ هذه هي الولاية الصوفية وهي لا تمت من قريب أو بعيد للولاية الإسلامية القرآنية قط‏.‏‏.‏ فالولي في الإسلام عبد هداه الله ووفقه وسار في مرضاة ربه حسب شريعته، وهو يخشى على نفسه دائمًا من الكفر والنفاق وسوء العاقبة ولا يعلم هل يقبل الله عمله أو لا‏.‏‏.‏ وأما الولي الصوفي فهو رب كبير أو صغير يتصرف في جانب من جوانب الكون ولا يلتزم بشريعة لأن له شريعته المستقلة، والملائكة تحت مشيئته والسماوات والأرض كالخلخال برجله‏!‏‏!‏ ولا يغرب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض، ولا خوف عليه مطلقًا لأنه قد جاءه الأمان، ولا يحزن لشيء مطلقًا لأن بيده التصريف‏.‏‏.‏ هذه هي الولاية الصوفية‏.‏ والحق أن الذي قرأ شيئًا من الفلسفة الإغريقية القديمة يعلم يقينًا أن فكرة الولاية الصوفية هذه منقولة عن هذه الفلسفة فآلهة الإغريق قديمًا ـ كما صورتها الإلياذة والأوديسياـ يتصرفون في الكون ولكل منهم جانب خاص من جوانب العالم، ‏(‏فمارس‏)‏ هو إله الحرب، ‏(‏وكيوبيد‏)‏ هو إله الحب و ‏(‏افروديت‏)‏ هي إلهة الجمال، و ‏(‏أبوللو‏)‏ هو رب الأرباب وهكذا‏.‏‏.‏

إن فكرة تعدد الآلهة عند الإغريق وتصرفهم في الكون هي فكرة الولاية الصوفية تمامًا حيث يعبث هؤلاء الولاية الصوفيون بمصائر البشر، ويتحكمون في أرزاقهم وأعمالهم، ويتصارعون أيضًا ويتنافسون كما يصنع آلهة الإغريق تمامًا‏.‏‏.‏

والآن اصحبني أيها القارئ لأريك نصوص المتصوفة وعباراتهم، وخيالاتهم في وصف ولايتهم الصوفية‏:‏

أول من ألف كتابًا مستقلًا في الولاية الصوفية هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي، الذي يسمونه الحكيم، وهو غير الترمذي صاحب السنن المشهورة بسنن الترمذي، وقد نشأ ‏(‏الحكيم‏)‏ هذا في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو مجهول سنة الولادة والوفاة‏.‏ وكتابه الذي أشرنا إليه يسمى ‏(‏خاتم الأولياء‏)‏ ‏(‏راجع الفصل بختم الولاية الصوفية‏)‏‏.‏‏.‏

والمهم هنا أن الترمذي هذا رسم الملامح الخيالية الزندقية للولاية الصوفية ومن أجل هذا الكتاب شهد علماء زمانه بالزندقة والكفر ونفوه من بلده ‏(‏ترمذ‏)‏ كما أخبر بذلك صاحب الطبقات الصوفية أبو عبدالرحمن السلمي، وادعى الترمذي هذا في الولاية ما تابعه بعد ذلك عامة الصوفية عليه من أن الولاية وهب ومنحة إلهية لا كسب وموجدات، وأن الولي يعلم علم البدء وعلم المقادير وعلم الحروف ‏(‏ختم الولاية ص362‏)‏‏.‏

ووضع الترمذي هذا مراتب للولاية، فجعل منهم المجاذيب وأهل العته والجنون لأن الله جذبهم إليه وأسقط عنهم التكاليف، وأن هناك أربعين من أوليائهم الذين يتصرفون في شئون العالم، وأن هناك القطب الأكبر والخاتم للولاية وأن الأولياء هؤلاء محروسون عند الله فلا يلقى في صدورهم إلا الوحي الرحماني الملائكي فقط‏!‏‏!‏ وجعل هؤلاء الأولياء منهم من بلغ ثلث النبوة، ومنهم من بلغ نصفها ومنهم من زاد على ذلك وهو ختم الأولياء ‏(‏ختم الولاية ص347‏)‏‏.‏ ومن هؤلاء الأولياء تظهر لهم الآيات مثل طي الأرض، والمشي على الماء ومحادثة الخضر ‏(‏ص361‏)‏‏.‏ وزعم كذلك أن قلوب هؤلاء الأولياء هي كتاب الله يطبع فيه ما يشاء‏!‏‏!‏ وأنهم كالأنبياء لهم من الله عقد الولاية ولذلك كشف عن قلوبهم الغطاء فيرون ملك الله في كل أجزائه في العالم العلوي والسفلي، وزعم أن هؤلاء الأولياء يعرفون منازلهم من الجنة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ويقطعون بذلك وأن الكرامات التي تظهر على أيديهم دليل على صدقهم وإيمانهم‏.‏‏.‏، يقول الترمذي‏:‏

‏"‏ما قولك في مُحَدِّث، بشر بالفوز والنجاة فقال‏:‏ رب اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني لينقطع الشك والاعتراض‏.‏ فقال ‏(‏أي الله‏)‏‏:‏ آتيك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيني الحرام في ثلاث خطوات، وأجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه كيف شئت وأجعل لك التراب والجو في يديك ذهبًا، ففعل هذا هل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى بعد ظهور هذه الآية أولًا‏"‏ ا‏.‏هـ منه بلفظه ‏(‏ختم الولاية ص401‏)‏‏.‏

وهذا الكلام من الحكيم الترمذي تلبيس وتدليس كله‏.‏‏.‏ من هذا الذي يخاطبه الله بكلمة بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏؟‏‏!‏ ولا نبي بعد رسول الله، ومن هذا الذي يعطيه من هذه الكرامات المزعومة ما لم يعط رسله وأنبياءه‏.‏‏.‏ فإن الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سار على الماء، ولا طار في الهواء، ولا جعلت له الجبال ذهبًا‏.‏ بل جاع هو وأصحابه وربط الحجر على بطنه أيامًا وسار على قدميه في جيوشه حتى تقطعت أقدامهم وما كان لهم إلا الخرق يلفونها به حتى لقد سمو غزوة من غزواتهم بغزوة ذات الرقاع لأنهم مزقوا فيها بعض ملابسهم ليلفوا أرجلهم ولقد كانوا أفضل الناس وأفضل الأمة، أيأتي بعد ذلك هؤلاء البطالون المتأكلون الآكلون أموال الناس بالباطل المعتقدون عقائد الوثنية والشرك ليعطيهم الله الولاية العظمى يمكنهم من الطيران في الهواء، والسير على الماء، وقلب الأحجار فضة وذهبًا لا شك أن الذي يزعم شيئًا من ذلك قد لبس عليه الشيطان وأدى له بعض الخدمات كأن نقله مرة من مكان إلى مكان بسرعة الشيطان، وسرق له بعض الذهب من مكان وتسمى هذه الأمثلة كرامة رحمانية وما هي إلا حيل شيطانية يلبس بها الشيطان على أوليائه‏.‏

ولا غرو أن يدعي الترمذي هذا ما يدعي فأنه قد ذكر على نفسه فيما سماه ‏(‏بدو شأن الترمذي‏)‏ أن زوجته قد تنبأت له، وزعمت له أنها رأت في شأنه عشرات من الرؤى منها أنها رأت أن سطح بيتها وكانت نائمة عليه قد هبط إلى الأرض وأنها وجدت داخل بيتها رجلين قاعدين في هيبة وأنهما قالا لها‏:‏ قولي لزوجك‏:‏ أنت وتد من أوتاد الأرض تمسك طائفة من الناس‏!‏‏!‏ ‏(‏بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص25‏)‏ وأن هذين الرجلين الذين بشراها هما محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجته هذه أيضًا تنبأت له بأنها كانت نائمة مع زوجها في فراش واحد وجاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدخل فراشهما معهما‏!‏‏!‏ ‏(‏بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص38‏)‏‏.‏

ولا يخفى أن أمثال هذه الرؤيا والتنبؤات رؤى شيطانية حتمًا فليس هناك شيء يسمى أوتادًا تمسك الأرض لأن الله سبحانه وتعالى يقول‏:‏ ‏{‏إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وإذا كان الله هو الذي يمسك السماوات والأرض فمعنى ذلك أنه ليس في حاجة إلى الترمذي وغيره ليكون وتدًا يمسك جانبًا من الأرض‏!‏‏!‏ نعم جعل الله الجبال أوتادًا للأرض ولم يجعل الترمذي الذي ينام ليله شاخرًا وتدًا من أوتاد الأرض وأما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول ‏(‏من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي‏)‏ يستحيل أن يأتي ليدخل في فراش رجل مع زوجته ولم يدخل مع زوجة الترمذي في فراشها وهي مع زوجها إلا الشيطان حتمًا الذي يعلم من هم أولياؤه‏.‏

واسمع إلى الترمذي يحكي عن خرافات زوجته فيقول‏:‏

‏"‏ثم رأت رؤيا أخرى وهي بالفارسية وفي آخرها قالت‏:‏ فانتبهت فوقع عليها حرص الاستماع إلى الموعظة وطلب الحقوق من نفسها‏.‏ فأول ما ابتدى لها من تحقيق رؤياها أنها كانت في البستان قاعدة وذلك لثلاث بقين من ذي القعدة، بعد أن رأت هذه الرؤيا، بنحو من خمسة أيام ‏(‏ستة‏)‏ إذ وقع على قلبها‏:‏ يا نور كل شيء وهداه أنت الذي فلق الظلمات نوره‏.‏

قالت فوجدت كأن شيئًا دخل صدري فدار حول قلبي فأحاط به وامتلأ الصدر إلى الحلق، حتى صرت شبه المخنوق من امتلائه، وله حرارة وحرقات على القلب فتزينت الأشياء كلها لي‏.‏ فما وقع بصري على أرض ولا سماء وخلق من الخلق إلا رأيته بخلاف ما كنت أراه من الزينة والبهجة والحلاوة‏.‏

ثم وقع على قلبي كلمة بالفارسية‏:‏ ‏(‏نكيني من ترا داذم‏)‏، فامتلأت فرحًا وطيب نفس ونشاطًا فأخبرتني بذلك فلما كان اليوم الثاني قالت‏:‏ وقع على قلبي أنا أعطيناك ثلاثة أشياء، ووقع الكلام بالفارسية‏:‏ ‏(‏سه جيزترا داذم جلال من ‏(‏و‏)‏ عظمة من وبهاء من ‏(‏ومعنى هذه الكلمات بالعربية‏:‏ أي أعطيناك ثلاثة أشياء هي جلالي وعظمتي وقدرتي‏!‏‏!‏‏)‏‏)‏ وأضاء لي من فوقي فدام هكذا فوق رأسي في الهواء كما كنت رأيته في المنام فترى في ذلك الضوء علم الجلال وعلم العظمة وعلم البهاء‏.‏‏.‏

فأما الجلال فإني رأيت كأن البيت يتحرك ‏(‏ايذون جيزي همي بيود، وجمش خلق همه ازوي، وعظمة بري ‏(‏و‏)‏ همه جيزها ازوي، وبها ‏(‏و‏)‏ سرا ‏(‏ي‏)‏ همه جيزها همه جيزها ‏(‏ازوي نخست فر ‏(‏أي أعطيناك علم الأولين‏)‏ سمانها وبذم او كنده‏.‏‏.‏ تفروذ‏)‏‏.‏

ثم وقع على قلبها، اليوم الثالث ‏(‏تراداذم علم اولين وآخرين‏)‏ فدام بها هذا حتى نطقت بعلم أسماء الله فكان يفتح لها في كل يوم اسم الأصل‏:‏ ويبدو، ذلك الضوء على قلبها وينكشف لها باطن ذلك‏.‏ حتى كان يوم الجمعة، في أيام العشرة، حضرت المجلس، فذكرت أنه وقع عليها اسم ‏(‏اللطيف‏)‏‏"‏‏.‏

فانظر كيف تنبأت زوجة الترمذي الفارسية وكانت الرؤى تنزل عليها بالفارسية أيضًا وأنها أخبرت أنها أخذت من الله الجلال والعظمة والقدر‏!‏‏!‏ وأنها كذلك نالت علم الأولين والآخرين، وهكذا لم يكتف الترمذي بأن يكون هو الوتد بل رأس الأوتاد الذين زعم أنهم أربعون بل زعم أخيرًا أنهم خاتم الأولياء جميعًا كما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الأنبياء ولم يكتف بكل ذلك إلا أن جعل زوجته متنبئة كذلك وأنها حصلت على علم الأولين والآخرين وأخذت ثلاث صفات من صفات لله تعالى وهي الجلالة والعظمة والقدر‏!‏‏؟‏

هذا هو الزعيم الأول والرائد الأول لفكرة الولاية الصوفية، وفكرة ختم الولاية‏.‏ والعجيب أنه كتب كتابه هذا نحو سنة 269هـ حيث ذكر أن زوجته رأت بعض هذه الرؤى يوم السبت 20 من ذي القعدة سنة 269هـ‏.‏‏.‏ وبذلك يكون الترمذي أول من وضع لبنات الفكر الصوفي في قضية الولاية المزعومة‏.‏‏.‏ ومن أجل هذا الكتاب رماه علماء بلده بالكفر والزندقة واستطاعوا طرده من ترمذ ولكنه عاد إليها بعد ذلك تحت جناح بعض الظالمين‏.‏‏.‏ وقد أفضنا في بيان هذه القضية من كتاب الترمذي لأنه أول من سن هذا الشر المستطير الذي جاء بعده، وكتابه هو أول كتاب فيما أظن قد وضع الأسس الخبيثة هذه لفكرة الولاية الصوفية‏.‏

 مراتب الولاية عند الصوفية

وقد ذهب المتصوفة إلى تقسيم مراتب الولاية عندهم فمنهم من قالوا إنهم يتقسمون إلى الغوث وهو أكبر الأولياء جميعًا وهو واحد في كل زمان وتحته الأوتاد الأربعة وكل واحد منهم في ركن من أركان العالم يقوم به ويحفظه والأقطاب السبعة وكل منهم في إقليم من أقاليم الأرض السبعة أي في قارة من القارات السبع، ‏(‏والأبدال‏)‏ وزعموا أنهم أربعون وهم يعيشون في العالم، وكلما هلك واحد منهم أبدله الله بغيره لحفظ الكون‏!‏‏!‏ ‏(‏والنجباء‏)‏ وهم ثلاثمائة كل منهم يتولى شأنًا من شئون الخلق‏.‏‏.‏

ولا يشك مسلم يعلم شيئًا من الكتاب والسنة ولا عالم قد اطلع على علوم الكتاب والسنة أن ما قاله الصوفية في هذا الصدد هراء وكذب لا أساس له من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن الصوفية أرادوا أن يؤسسوا لهم دولة في الباطن تحكم وتنفذ وتتحكم في شئون الناس فبنوا هذه الدولة العجيبة الباطنية التي يتحكم فيها هؤلاء الذين سموهم بالغوث والأقطاب والأبدال والنجباء والأوتاد‏.‏‏.‏ ويتعجب الإنسان وهو يطالع الفكر الصوفي في هذا الصدد كيف أن المتصوفة أحكموا خطتهم للسيطرة على عقول الناس، ولإدخالهم إلى دينهم العجب العجيب حيث أوهموهم أن التصريف في الأرض والسماء والخلق أجمعين إنما هو لدولتهم الخفية التي يتحكم فيها أولياء الصوفية‏.‏‏.‏ هؤلاء الأولياء الذين قد يكونون أحيانًا أميين لا يعرفون قراءة ولا كتابة وأحيانًا مجاذيب يصرخون ويبولون في الطرقات وأحيانًا زناة وشاربي خمور قد رفعت عنهم التكاليف الظاهرة وأن منهم من يعيش طيلة عمره قذرًا وسخًا لا يتطهر بماء قط أو صابون ليوفر الماء ‏(‏انظر‏)‏ للفقراء‏!‏‏!‏ ومع ذلك فهؤلاء الأولياء يعلمون الغيب كله ولا يخفى عليهم شيء في الأرض ولا في السماء ولا يعجزهم شيء ولا يقف أمام إرادتهم أحد أبدًا‏.‏‏.‏ وتعال معي في جولة مع خرافات القوم وترهاتهم لتعلم أي عالم يعيش فيه رجال التصوف‏.‏

وقد كفانا عبد الوهاب الشعراني مئونة تجميع أقوالهم في مراتب الولاية حيث جمع أقوال ابن عربي في الفتوحات ولنبدأ أولًا بمفهوم القطب الغوث أو القطب الأكبر عند الصوفية‏:‏

يقول الشعراني‏:‏

‏"‏وأما القطب فقد ذكر الشيخ في الباب الخامس وخمسين ومائتين أنه لا يتمكن القطب من أن يقوم في القطابة إلا بعد أن يحصل معاني الحروف التي في أوائل السور المقطعة مثل ألم، والمص، ونحوهما فإذا أوقفه الله تعالى على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة وكان أهلًا لها‏.‏

‏(‏فإن قلت‏)‏ فما علامة القطب فإن جماعة في عصرنا ادعوا القطبية وليس معنا علم برد دعواهم‏.‏

‏(‏فالجواب‏)‏ قد ذكر الشيخ أبو الحسن الشاذلي ـ رضي الله عنه ـ أن للقطب خمس عشرة علامة‏:‏ أن يمد بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش العظيم ويكشف له عن حقيقة الذات وإحاطة الصفات ويكرم بكرامة الحلم والفضل بين الموجودين وانفصال الأول عن الأول وما انفصل عنه إلى منتهاه وما ثبت فيه حكم ما قبل وما بعد وحكم من لا قبل له ولا بعد، وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم ما بدا من السر الأول إلى منتهاه ثم يعود إليه‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏

وقال في الفتوحات في الباب السبعين ومائتين‏:‏ ‏"‏إن اسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية ‏(‏أي أن يتصف بما يتصف به الله من السمع والبصر والقدرة‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏، بحكم الخلافة وهو مرآة الحق تعالى ومجلى النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية ‏(‏يعني ظهور صفات الله فيه‏)‏، وصاحب الوقت ‏(‏أي المتصرف في الخلق‏)‏، وعين الزمان وصاحب علم سر القدر وله علم دهر الدهور ‏(‏فهو يعلم ما مضى وما يأتي‏)‏، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء لأنه محفوظ في خزائن الغيرة ملتحف بأردية الصون لا يعتريه شبهة في دينه قط ولا يخطر له خاطر يناقض مقامه، كثير النكاح وراغب فيه، محب للنساء، يوفي الطبيعة حقها على الحد المشروع له، ويوفي الروحانية حقها على الحد الإلهي، يضع الموازين ويتصرف على المقدار المعين الموقت له لا يحكم عليه وقت إنما هو لله وحده حاله دائمًا العبودية والافتقار، يقبح القبيح ويحسن الحسن، يحب الجمال المقيد في الزينة والأشخاص، تأتيه الأرواح في أحسن الصور يذوب عشقًا يغار لله عز وجل، ويغضب له تعالى، له الإطلاق في المظاهر من غير تقييد، لا تظهر روحانيته إلا من خاف حجاب الشهادة والغيب، لا يرى من الأشياء إلا محل نظر الحق فيها، يضع الأسباب ويقيمها، ويدل عليها، ويجري بحكمها، ينزل إليها حتى يحكم عليه، ويؤثر فيه رياسة على أحد من الخلق بوجه من الوجوه مصاحب لهذا الحال دائمًا إن كان صاحب دنيا وثروة تصرف فيها تصرف عبد في مال سيد كريم وإن لم يكن بيده دنيا وكان على ما يفتح الله تعالى له به لم تستشرف له نفس بل يقصد بنفسه عند الحاجة بيت صديق ممن يعرفه يعرض عليه ما تحتاج إليه طبيعته كالشافع لها عنده فيتناول لها منه قدر ما تحتاج إليه ثم ينصرف لا يجلس عن حاجته إلا لضرورة فإن لم يجد حاجته لجأ إلى الله تعالى في حاجة طبيعة لأنه مسؤول عنها ومتول عليها ثم ينتظر الإجابة من الله فيما سأل فإن شاء الله تعالى أعطاه ما سأل عاجلًا أو آجلًا فمرتبته الإلحاح في الدعاء والشفاعة في حق طبيعته بخلاف أصحاب الأحوال فإن الأشياء كلها تتكون عن هممهم لأن الله تعالى عجل لهم نصيبًا من أحوالهم في الجنة فهم ربانيون والقطب منزه عن الحال ثابت في العلم فإن أطلعه الله على ما يكون أخبر بذلك على وجه الافتقار الله لا على وجه الافتخار لا تطوى له أرض ولا يمشي في هواء ولا على ماء ولا يأكل من غير سبب ولا يطرأ عليه شيء من خرق العوائد إلا في النادر لا ما يراه الحق تعالى فيفعله بإذن الله من غير أن يكون ذلك مطلوبًا له وكذلك من شأنه أن يجوع اضطرارًا لا اختيارًا ويصبر على النكاح كذلك لعدم الطول يعلم من تجلي النكاح ما يحرضه على طلبه والتعشق به لا يتحقق قط بالعبودية في شيء أكثر مما يتحقق به في النكاح لا يرغب في النكاح للنسل وإنما يرغب ففيه لمجرد الشهوة وإحضار التناسل في نفسه لأمر مشروع فنكاحه لمجرد اللذة كنكاح أهل الجنة‏.‏ وقد غاب عن هذه الحقيقة أكثر العارفين لما فيه من شهود الضعف وقهر اللذة المغيبة له عن إحساسه فهو قهر لذيذ وذلك من خصائص الأنبياء ولعلو مراقي هذا المقام جهله أكثر الأولياء وجعلوا النكاح شهوة حيوانية ونزهوا أنفسهم عن الإكثار منها‏"‏ ‏(‏اليواقيت والجواهر ج2 ص79‏)‏ ا‏.‏هـ‏.‏

فانظر كيف لبس على الناس ووصف الولي المزعوم بصفات الربوبية الكاملة ثم راح يصفه بصفات العبودية أيضًا تلبيسًا على الناس‏.‏

ويستطرد الشعراني ناقلًا عن ابن عربي وصفه للغوث فيقول‏:‏

‏"‏واعلم أن من مقام القطب أن يتلقى أنفاسه إذا دخلت وإذا خرجت بأحسن الأدب لأنها رسل الله إليه فترجع منه إلى ربها شاكرة له لا يتكلف لذلك ‏(‏وهذا كذب محض فالتنفس عملية لا إرادية شأنها واحد في كل إنسان وليس هناك نفس مسبح ونفس غير مسبح إلا أنه يعتقد المؤمن أن حياته لا تقوم إلا بالله فيؤجر على ذلك ويكون عائدًا لله من هذا الوجه‏)‏‏.‏

وأطال الشيخ في ذلك ثم قال فإذن القطب هو الرجل الكامل الذي حصل أربعة الدنانير منها خمسة وعشرون قيراطًا وبها توزن الرجال والأربعة هم الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون فهو وارثهم كلهم ـ رضي الله عنه ـ‏.‏ وقال الشيخ في الباب الحادي والخمسين وثلاثمائة‏:‏ من شأن القطب الوقوف دائمًا خلف الحجاب الذي بينه وبين الحق جل وعلا فلا يرتفع حجابه حتى يموت فإن مات لقي الله ـ عز وجل ـ فهو كالحجاب الذي ينفذ أوامر الملك وليس له من الله تعالى إلا صفة الخطاب لا الشهود‏"‏ ‏(‏عاد إلى التلبيس مرة ثانية فزعم أن الولي يتصرف في الخلق بأمر الله‏)‏‏.‏